فوائد بين الكهرباء

أهل بلدنا لا يحبون استخدام اللغة العربية الفصيحة إلا في مكانها المناسب، فإذا كانوا يصفون فتاة حسناء تراهم ينتقون الكلمات الجميلة بعناية مفرطة، فيقولون: قوامها، وجيدها، وثغرها، ومبسمها، وأناملها،.. ويقولون: هيفاء، وفرعاء، ولعساء، ولمياء، ونؤوم الضحى، وبعيدة مهوى القرط!..
وأما الأشياء التي ينزعجون منها فيؤثرون أن يستخدموا معها كلمات وعبارات رثة كقولهم، مثلاً، عن قطع التيار الكهربائي (طفي الكهربا).
وأنا كنت مثلهم، أكره هذه الفعلة، فأسميها (طفي) و(تعتيم) و(بشكرة) و(تقبيش) و(تضبيع- نسبة إلى الضبع الذي لا يأخذ مجده إلا في العتمة!).. ولكنني، من كثرة ما تعرضنا للطفي في السنوات الأخيرة، أنعمت التفكير في المسألة، فتوصلت إلى أن للطفي فوائد ليست قليلة، وأنه فعل نافع، ويجدر بنا أن نختار له اسماً شاعرياً يليق به!
من هذه الأسماء الجميلة، الشاعرية، اخترت لكم كلمة (بَيْن)، بمعنى (غياب)، وأنتم تذكرون أن كعب بن زهير بن أبي سلمى قال في مطلع قصيدته الشهيرة:
بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ.. (بانت: غابت، أو ابتعدت. وبانت الكهرباء: انطفأت، ومصدرها: بَيْن)!
وإليكم ذكراً لبعض فوائد بَيْنِ الكهرباء، وهي كثيرة جداً:
أولاً- البينُ بطولة:
قبل نحو ربع قرن من الزمان كان يدير مؤسسة الكهرباء في إحدى المحافظات رجل نظامي، يتقيد بمواعيد قطع التيار على التكة، فكان (يُبين) الكهرباء عن الناس في محافظته ساعات طويلة، وإذا زاد عنده كمية من المخصصات الكهربائية لم يكن يستخدمها في إنقاص ساعات (البين)، بل كان يعيدها إلى المصدر الرئيسي، لكي تستهلك في محافظة أخرى.
في آخر السنة قام وفد من اتحاد العمال المركزي بجولة على المحافظات لاختيار أبطال الإنتاج وأعطيت له البطولة دون منافسة تذكر، ووضعت صورته في الساحة العامة بمركز المحافظة، وعلى الفور أسماه أهل محافظته (بطل الطفي)، وأنا أسميته (بطل البين)!
ثانياً- البينُ ثقافة:
في فصل الصيف الماضي تكرر بين الكهرباء كثيراً، وكان أولادي- الله يخلّي لكم أولادكم- كلما بانت الكهرباء يهرعون إلى المكتبة، ويعودون وكل واحد معه كتاب يستخدمونه في التهوية على وجوههم، وخلال التهوية يدفعهم الفضول لقراءة بعض سطوره، (على ضوء الشموع طبعاً).. وبعد قليل يستغرقون في المطالعة، ووقتذاك فكرت على النحو الآتي: إذا واظبت وزارة الكهرباء على هذه البينونة بضع سنوات أخرى فسيصبح الأولاد مثقفين من الطراز الرفيع!
ثالثاً- البين نشاط
ومن مزايا بين التيار الكهربائي، يا أيها الأصدقاء القراء، أن الناس، في لحظة البين، يباشرون بالحكي والتذمر والقروشة، وبعضهم يقولون كلاماً أخجل من ذكره أمامكم.. وبهذا يكسرون روتين الحياة والملل، بمعنى أن (بين الكهربا) ينتج حراكاً اجتماعياً متميزاً.
رابعاً- البينُ يحقق العدالة
إن بعض الناس المسنودين على البعض الآخر، وبعض المحسوبين على زيد وعبيد ونطاط الحيط من الناس، يسرقون الكهرباء من الشبكة العامة، ويسرفون في استهلاكها، ولا يدفعون من ثمنها قرشاً سورياً واحداً، وأما نحن- الذين أطلق علينا أحد المسؤولين السابقين لقب (الحمير!) لأننا لا نسرق-.. فنقنن استهلاكنا من الكهرباء، ونخفضه إلى أدنى مستوى ممكن، ومع ذلك ندفع ثمن الكهرباء بالسعر التصاعدي، مبالغ تكسر الظهر.
ومن الفوائد العظيمة (للبين) هو أنه يحقق العدالة، ففي ساعات البين نتساوى نحن مع الحرامية! وهذا ما لم نكن نحلم به في ظل تدفق التيار في الأسلاك!
خامساً: البينُ يساعد في تطبيق النظام
أنا أعرف أن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تمنع أصحاب المعامل والشركات والمشاغل والمانيفاكتورات من العمل وتشغيل عمالها أكثر من ثماني ساعات في اليوم، ولكن أكثر أصحاب المصالح في بلادنا لا يتقيدون بهذا النظام. الآن، وبسبب (بين الكهربا)، انخفض مجموع ما يعمله العامل السوري في اليوم إلى أقل من ثماني ساعات، وبهذا تقدم وزارة الكهرباء لوزارة الشؤون خدمة لا يمكن لها أن تنساها أبداً. وهي بهذا تخدم العمال أنفسهم (تريحهم)، وتخدم المجتمع الذي يطمح لأن يأتي يوم يتحقق فيه النظام ويطبق فيه القانون على الجميع

مشكورهـ

عفووووووووا